سورة المؤمنون - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المؤمنون)


        


ولما كانت هذه القصة من أغرب القصص، حث على تدبرها بقوله: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم الذي ذكر من أمر نوح وقومه وكذا ما هو مهاد له {لآيات} أي علامات دالات على صدق الأنبياء في أن المؤمنين هم المفلحون، وأنهم الوارثون للأرض بعد الظالمين وإن عظمت شوكتهم، واشتدت صولتهم {وإن} أي وإنا بما لنا من العظمة {كنا} بما لنا من الوصف الثابت الدال على تمام القدرة {لمبتلين} أي فاعلين فعل المختبر لعبادنا بإرسال الرسل ليظهر في عالم الشهادة الصالحُ منهم من غيره، ثم نبتلي الصالحين منهم بما يزيد حسناتهم، وينقص سيئاتهم، ويعلي درجاتهم، ثم نجعل لهم العاقبة فنبلي بهم الظالمين بما يوجب دمارهم، ويخرب ديارهم، ويمحو آثارهم، هذه عادتنا المستمرة إلى أن نرث الأرض ومن عليها فيكون البلاء المبين.
ولما بين سبحانه وتعالى تكذيبهم وما عذبهم به، وكان القياس موجباً لأن من يأتي يعدهم يخشى مثل مصرعهم، فيسلك غير سبيلهم، ويقول غير قيلهم، بين أنه لم تنفعهم العبرة، فارتكبوا مثل أحوالهم، وزادوا على أقوالهم وأفعالهم، لإرادة ذلك من الفاعل المختار، الواحد القهار، وأيضاً فإنه لما كان المقصود- مع التهديد والدلالة على القدرة والاختيار- الدلالة على تخصيص المؤمنين بالفلاح والبقاء بعد الأعداء، وكان إهلاك المترفين أدل على ذلك، اقتصر على ذكرهم وأبهمهم ليصح تنزيل قصتهم على كل من ادعى فيهم الإتراف من الكفرة، ويترجح إرادة عاد لما أعطوا مع ذلك من قوة الأبدان وعظم الأجسام، وبذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما، وإرادة ثمود لما في الشعراء والقمر مما يشابه بعض قولهم هنا، وللتعبير عن عذابهم بالصيحة ولموافقتهم لقوم نوح في تعليل ردهم بكونه بشراً، وطوى الإخبار عمن بعدهم بغير التكذيب والإهلاك لعدم الحاجة إلى ذكر شيء غيره، فقال: {ثم أنشأنا} أي أحدثنا وأحيينا وربينا بما لنا من العظمة. ولما لم يستغرقوا زمان البعد، أتى بالجار فقال: {من بعدهم قرناً} أي أمة وجيلاً. ولما كان ربما ظن ظان أنهم فرقة من المهلكين نجوا من عذاب سائرهم كما يكون في حروب سائر الملوك، عبر عن إنجائهم بإنشائهم، حقق أنهم أحدثوا بعدهم فقال: {آخرين فأرسلنا} أي فتعقب إنشاءنا لهم وتسبب عنه أن أرسلنا.
ولما كان المقصود الإبلاغ في التسلية، عدي الفعل ب في دلالة على أنه عمهم بالإبلاغ كما يعم المظروف الظرف، حتر لم يدع واحداً منهم إلا أبلغ في أمره فقال: {فيهم رسولاً منهم} فكان القياس يقتضي مبادرتهم لاتباعه لعلمهم بما حل بمن قبلهم لأجل التكذيب، ولمعرفتهم غاية المعرفة لكون النبي منهم، بما جعلناه عليه المحاسن، وما زيناه به من الفضائل، ولأن عزه عزهم، ولدعائه لهم إلى ما لا يخفى حسنه على عاقل، ولا يأباه منصف؛ ثم بين ما أرسل به بقوله: {أن اعبدوا الله} أي وحده لأنه لا مكافئ له، ولذا حفظ اسمه فكان لا سمي له؛ ثم علل ذلك بقوله: {ما لكم} ودل على الاستغراق بقوله: {من إله غيره}.
ولما كانت المثلات قد دخلت من قبلهم في المكذبين، وأناخت صروفها بالظالمين، فتسبب عن عملهم بذلك إنكار قلة مبالاتهم في عدم تحرزهم من مثل مصارعهم، قال: {أفلا تتقون} أي تجعلون لكم وقاية مما ينبغي الخوف منه فتجعلوا وقاية تحول بينكم وبين سخط الله.


ولما كان التقدير: فلم يؤمنوا ولم يتقوا دأب قوم نوح، عطف عليه قوله: {وقال الملأ} أي الأشراف الذين تملأ رؤيتهم الصدور، فكأن ما اقترن بالواو أعظم في التسلية مما خلا منها على تقدير سؤال لدلالة هذا على ما عطف عليه. ولما كانت القبائل قد تفرغت بتفرق الألسن، قدم قوله: {من قومه} اهتماماً وتخصيصاً للإبلاغ في التسلية ولأنه لو أخر لكان بعد تمام الصلة وهي طويلة؛ ثم بين الملأ بقوله: {الذين كفروا} أي غطوا ما يعرفون من أدلة التوحيد والانتقام من المشركين {وكذبوا بلقاء الآخرة} لتكذيبهم بالبعث.
ولما كان من لازم الشرف الترف، صرح به إشارة إلى أنه- لظن كونه سعادة في الدنيا- قاطع في الغالب عن سعادة الآخرة، لكونه حاملاً على الأشر والبطر والتكبر حتى على المنعم، فقال: {وأترفناهم} أي والحال أنا- بما لنا وعلى ما لنا من العظمة- نعمناهم {في الحياة الدنيا} أي الدانية الدنيئة، بالأموال والأولاد وكثرة السرور، يخاطبون أتباعهم: {ما هذا} أشاروا إليه تحقيراً له عند المخاطبين {إلا بشر مثلكم} أي في الخلق والحال؛ ثم وصفوه بما يوهم المساواة في كل وصف فقالوا: {يأكل مما تأكلون منه} من طعام الدنيا {ويشرب مما تشربون} أي منه من شرابها فكيف يكون رسولاً دونكم!
ولما كان التقدير: فلئن اتبعتموه إنكم لضالون، عطف عليه: {ولئن أطعتم بشراً مثلكم} في جميع ما ترون {إنكم إذاً} أي إذا أطعتموه {لخاسرون} أي مغبونون لكونكم فضلتم مثلكم عليكم بما يدعيه مما نحن له منكرون؛ ثم بينوا إنكارهم بقولهم: {أيعدكم أنكم إذا متم} ففارقت أرواحكم أجسادكم {وكنتم} أي وكانت أجسادكم {تراباً} باستيلاء التراب على ما دون عظامها {وعظاماً} مجردة؛ ثم بين الموعود به بعد أن حرك النفوس إليه، وبعث بما قدمه أتم بعث عليه، فقال مبدلاً من {أنكم} الأولى إيضاحاً للمعنى: {أنكم مخرجون} أي من تلك الحالة التي صرتم إليها، فراجعون إلى ما كنتم عليه من الحياة على ما كان لكم من الأجسام؛ ثم استأنفوا التصريح بما دل عليه الكلام من استبعادهم ذلك فقالوا: {هيهات هيهات} أي بعد بعد جداً بحيث صار ممتنعاً، ولم يرفع ما بعده به بل قطع عنه تفخيماً له، فكان كأنه قيل: لأيّ شيء هذا الاستبعاد؟ فقيل: {لما توعدون}.


ولما كانوا بهذا التأكيد في التبعيد كأنهم قالوا: إنا لا نبعث أصلاً، اتصل به: {إن هي} أي الحالة التي لا يمكن لنا سواها {إلا حياتنا الدنيا} أي التي هي أقرب الأشياء إلينا وهي ما نحن فيها، ثم فسروها بقولهم: {نموت ونحيا} أي يموت منا من هو موجود، وينشأ آخرون بعدهم {وما نحن بمبعوثين} بعد الموت، فكأنه قيل: فما هذا الكلام الذي يقوله؟ فقيل: كذب؛ ثم حصروا أمره في الكذب فقالوا: {إن} أي ما {هو إلا} وألهبوه على ترك مثل ما خاطبهم به بقولهم: {رجل افترى} أي تعمد {على الله} أي الملك الأعلى {كذباً} والرجل لا ينبغي له مثل ذلك، أو هو واحد وحده، أي لا يلتفت إليه {وما نحن له بمؤمنين} أي بمصدقين فيما يخبرنا به من البعث والرسالة؛ ثم استأنف قوله: {قال رب} أي أيها المحسن إليّ بإرسالي إليهم وغيره من أنواع التربية {انصرني} عليهم أي أوقع لي النصر {بما كذبون} فأجابه ربه بأن {قال عما قليل} أي من الزمن. وأكد قلته بزيادة ما {ليصبحن نادمين} على تخلفهم عن اتباعك.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8